بين “النّيابيّ” و”الدّستوريّ”… أيّ مجلس هو المفسّر؟


وسط زحمة أزمات اللبناني اليومية الّتي ترهق كاهله معدمةً بصيص أمله في خلاصٍ قريب المنال فقد برز تصريح لرئيس الجمهوريّة ميشال عون خلال استقباله رئيس وأعضاء المجلس الدّستوريّ متطرّقاً فيه إلى دور هذا المجلس في مراقبة و دستوريّة القوانين وتفسير الدّستور ما أشعل موجة ردود افتتحها رئيس المجلس النّيابيّ نبيه برّي وتبعه عددٌ من النّوّاب إنه و ليس خفيّاً على أحد سعي بعض الفرقاء إلى تعديل الدّستور وتحديداً في ما خصّ صلاحيّات رئيس الجمهوريّة ما شابه تعديل النّظام الرّئاسيّ الضمني، وسعي فريق آخر إلى تغيير جذريّ في النّظام لفرض حكم الأكثريّة أو ما بات يُعرف بتعبير ملطّف “بالدّيمقراطيّة العدديّة”؛ أو على الأقلّ التّمسّك بالدّستور الحاليّ وأحكام القبضة على مفاصل الدّولة بواسطة فائض القوّة لدى هذا الفريق فقد قفز أرنب “تفسير الدّستور” من قبّعة “الحرتقة” الدّائمة بين الرّئاستين الأولى والثّانية فاستجدّ سجال جديد على السّاحة ليزيد التشنج في بلد لم يطبّق رؤساءه و رجال دولته بالغالبية تطبيقاً سليماً لأحكام الدستور

ولطالما كانت وجهات النّظر متضاربة حول هذا الأمر، البعض يصرّ على إسناد هذه الصّلاحيّة إلى المجلس الدّستوريّ كما اتُّفق عليه في الطّائف، و البعض الآخر عارض ذلك وتجلّت هذه المعارضة في جلسة تعديل الدّستور في ٢١ آب ١٩٩٠ و قضي حينها بالتّعديل الّذي طرأ على المادّة ١٩ من الدّستور بحيث لم تأت على ذكر مسألة التّفسير ، من هنا ، تمّ إرساء مبدأ مفاده أنّ الهيئة العامّة للمجلس النّيابيّ تحمل على عاتقها تفسير الدّستور كلّ ما دعت الحاجة، وقد شهد مرّات عدّة على هذا الواقع، وآخرها كان توجيه رئيس الجمهوريّة ميشال عون رسالة للمجلس النّيابيّ بشأن تفسير المادّة ٩٥ من الدّستور وذلك بتاريخ ٣١ تمّوز ٢٠١٩ سنداً لأحكام المادّة ٥٣ فقرة ١٠ من الدّستور ولكن لم يصار حينها إلى عقد جلسة نيابيّة لمناقشة مضمون الرّسالة نظراً للأوضاع العامّة السّائدة آنذاك خصوصاً بعد أحداث 17 تشرين

تنفيذاً لاتّفاق الطّائف، أقرّ مجلس النّوّاب القانون رقم ٢٥٠ تاريخ ١٤/٧/١٩٩٣ المتعلّق بإنشاء المجلس الدّستوريّ ونصّت المادّة الأولى منه صراحةً على أنّه تنفيذاً لأحكام المادّة١٩ من الدّستور، ينشأ مجلس يسمّى المجلس الدّستوريّ مهمّته الرقابة على دستوريّة القوانين وسائر النّصوص الّتي لها قوّة القانون والبتّ في النّزاعات والطّعون النّاشئة عن الانتخابات الرّئاسيّة والنّيابيّة

المجلس الدستوري

المجلس الدّستوريّ يشكل هيئة دستوريّة مستقلّة ذات صفة قضائيّة و استطراداً، نلحظ بوضوح غياب مهمّة تفسير الدّستور عن هذا المجلس وحرمانه أهمّ سمة يجب أن يتمتّع بها وفقاً لما ورد في وثيقة الوفاق الوطنيّ، إضافةً إلى إغفال الدّستور والنّظام الدّاخليّ لمجلس النّوّاب تحديد آليّة لتفسير الدّستور و ليس النّصاب المطلوب لاتّخاذ القرار في شأن التّفسير حسبما ورد في دراسةٍ أعدّها رئيس المجلس الدّستوريّ السّابق القاضي د.عصام سليمان إلّا أنّ هذا الأمر لم يحول دون لجوء المجلس الدّستوريّ إلى إيضاح بعض النّقاط الدّستوريّة وإزالة اللّبس والغموض الّذين يلفّان الدستور في معرض القرارات الّتي يصدرها المجلس بشأن دستوريّة بعض القوانين المطعون بها بحيث يتمّ الاستئناس بها لتفسير بعض المواد الدّستوريّة وتجدر الإشارة إلى أن المجلس الدّستوريّ اللّبنانيّ يمارس رقابة هجوميّة لاحقة على دستوريّة القوانين حيث تقدّم المراجعة من قبل المرجع المختصّ إلى رئاسة المجلس الدّستوريّ خلال مهلة خمسة عشر يوماً تلي نشر القانون في الجريدة الرّسميّة أو في إحدى وسائل النّشر الرّسميّة الأخرى المعتمدة قانوناً، تحت طائلة ردّ المراجعة شكلاً وذلك سنداً للمادّة ١٩ من القانون ٢٥٠/٩٣ كما وحصرت المادّة المذكورة حقّ تقديم المراجعة برئيس الجمهوريّة ورئيس مجلس النّوّاب ورئيس مجلس الوزراء ولعشرة أعضاء من مجلس النّوّاب على الأقلّ في ما يتعلّق بمراقبة دستوريّة القوانين كما أعطت الحقّ لرؤساء الطّوائف المعترف بها قانوناً بمراجعة المجلس في كل ما يتعلّق حصراً بالأحوال الشّخصيّة وحرّيّة المعتقد وممارسة الشّعائر الدّينيّة وحرّيّة التّعليم الدّينيّ

هذا السّرد السّابق الذّكر، دفع برئيس المجلس الدّستوريّ السّابق القاضي د.عصام سليمان إلى إعداد مشروع تعديل النّصّ الدّستوريّ وبعض النّصوص القانونيّة ذات علاقة بالمجلس الدّستوري: فقد اقترح تعديل المادّة ١٩ من الدّستور وتوسيع نطاقها بهدف إعطاء المجلس الدّستوريّ صلاحيّة تفسير الدّستور إلى جانب صلاحيّاته الحاليّة إضافةً إلى السّماح للمجلس بممارسة رقابته عفواً من تلقاء ذاته على القوانين المتعلّقة به وعلى النّظام الدّاخليّ لكلّ من مجلس النّوّاب ومجلس الوزراء وقانون الانتخابات النّيابيّة وقوانين تنظيم القضاء والموازنة العامّة والجنسيّة واللّامركزيّة الإداريّة

تداعيات اقتراح تعديل المادة 19 من الدستور

لقد أُعطي في هذا الاقتراح الحقّ لأيّ طرف في دعوى مقامة أمام محكمة عدليّة أو إداريّة الدّفع بعدم دستوريّة نصّ قانونيّ يحكم الفصل في الدّعوى ويتعارض مع الضّمانات الدّستوريّة للحقوق والحرّيّات، فإذا رأت المحكمة العدليّة الدّفع جدّيّاً أحالته إلى محكمة التّمييز لتحيله بدورها إلى المجلس الدّستوريّ، و لجهة مجلس شورى الدّولة إذا وجد الدّفع جدّيّاً أحاله مباشرةً إلى المجلس الدّستوريّ وفي السّياق التّعديليّ عينه، اقترح القاضي سليمان بعض التّعديلات على القانون رقم ٢٥٠/٩٣؛ فبالنّسبة للمادّة الأولى اقترح إضافة مهمّة تفسير الدّستور، أمّا بالنّسبة لاقتراح تعديل المادّة ١٨ من القانون عينه فقد أولى المجلس صلاحيّة تفسير الدّستور أيضاً، كما أنّ اقتراح تعديل المادّة ١٩ منح الحق للرّؤساء الثّلاثة ولعشرة أعضاء من مجلس النّوّاب على الأقلّ بتقديم مراجعة في ما يتعلّق بتفسير الدّستور إضافةً إلى حقّهم بالطّعن بدستوريّة القوانين وحمل الاقتراح للمجلس للبتّ بمراجعة تفسير الدّستور خلال مهلة شهر من تاريخ تسجيلها في القلم على أن يعتمد في شأنها الإجراءات نفسها المعتمدة في البتّ بدستوريّة القوانين ونلفت النظر إلى أنّ المشروع الّذي أعدّه القاضي سليمان شمل عدّة اقتراحات تعديليّة تقنيّة وجوهريّة على عددٍ من المواد الدّستوريّة والقانونيّة-القانون ٢٥٠/٩٣ والقانون رقم ٢٤٣

في الخلاصة، إنّ السّجال حول مسألة تفسير الدّستور سيبقى محطّ أخذٍ وردّ في ظلّ عدم وجود آليّة واضحة وشفّافة يمكن اعتمادها وفي ظلّ عدم تطبيق ما اتّفق عليه في اتّفاق الطّائف، ولا يمكننا إغفال مدى استغلال القوى السّياسيّة مسألةً دستوريّة جدليّة كهذه لتراشق الاتّهامات في ما بينهم وتسجيل النّقاط في وقت يكون الوطن فيه بأمسّ الحاجة لتطبيق الدّستور بحرفيّته دون مواربة، فما الجدوى إذاً من الدّخول اليوم بالجدل الدّستوريّ؟

لذا فإنّ اللّجوء إلى إحداث تعديلات تقنيّة على الدّستور سوف يفتح حكماً، شهيّة البعض على إدخال تعديلات جوهريّة من شأنها إحداث تغيير في الصّيغة والنّظام اللّبنانيّ وهذا ما ترفضه شريحة واسعة جدّاً من اللّبنانيّين لذا و قبل اللجوء إلى تعديل الدّستور، واجبنا تطبيقه ثم معاقبة خارقيه فنشر ثقافة الالتزام به ، فهو ليست وجهة نظر بل ينزل منزلة الكتب السّماويّة في علم المواطنة وصون الدّيموقراطيّة مع العلم أن دستورنا ليس مثاليّاً لكنّه ممتاز…فالتزموه وكأنّكم أقسمتم عليه


Peter Hachem
Peter Hachem

DSP2

كلّ دولة في العالم بحاجة لدستور يحدّد إطارها وينظّم العمل في ما بين سلطاتها، فالدّستور يعتبر أب القوانين وأسماها، منه تنبثق القوانين الأخرى وإليه يتمّ الاحتكام، لذلك فإنّ نشر الثّقافة الدّستوريّة الّتي من شأنها الارتقاء بالمواطن إلى مستوًى يجعل منه فرداً صالحاً قادراً على التّمتّع بحقوقه المدنيّة والسّياسيّة واستخدامها في الأوقات المناسبة


المراجع

الدستور اللبناني –

اتفاق الطائف الصادر عام 1989 –

الرئيس السابق للمجلس الدستوري الدكتور عصام سليمان –


Leave a Comment