الإنتخابات النيابية المبكرة


Nabih Berri

الإنتخابات النيابية المبكرة، حلم شعب يحققه مجلس النواب بحل نفسه 

يكثر في الآونة الأخيرة، الحديث عن ضرورة إجراء إنتخابات نيابية مبكرة بهدف إعادة تأسيس السلطة وإعادة الحياة الديمقراطيّة للوطن، لا سيما وأن شريحة من اللبنانيين تعتبر أن نسبة المقترعين في الانتخابات النيابية الأخيرة كانت متواضعة، بما أنها لم تتعدَّ 49،68% (بحسب موقع الإنتخابات اللبنانية). وأكثر من ذلك، فإن ما حصل في الجلسات التشريعيّة الأخيرّة أظهر الكيديّة والشعبوية في مقاربة القوى السياسية للقوانين الضروريّة مما أدّى الى شلل تشريعي وإرجاء الكثير من القوانين المهمّة

ومما لا شك فيه أن الإنتخابات النيابية المبكرة ليست بفكرة مستجدّة أو دخيلة على الحياة السياسية اللبنانية. فقد شهد لبنان إنتخابات نيابية مبكرة مرتين خلال تاريخه؛ الأولى في عهد الرئيس كميل شمعون بتاريخ 30 أيار 1953 على إثر المرسوم 2063 الذي قضى بموجبه حل مجلس النواب قبل إكمال ولايته الدستورية معللا قراره هذا، وعجز المجلس النيابي عن تأدية مهامه وتخلف أعضائه عن حضور اللجان المختلفة، فضلا عن مغادرتهم الجلسات قبل الأوان، مما أدى الى فقدان النصاب وتعطيل العمل التشريعي. وهكذا أصبح هذا المجلس أقصر المجالس النيابية ولايةً في تاريخ لبنان، بحيث أمضى سنتين فقط من ولايته. ومن الجدير ذكره أن الإنتخابات التي تلته جرت في ظل قانون إنتخابي جديد تم اعتماده آنذاك على أساس الدائرة الفردية والمصغّرة. وإضافة إلى ذلك، كُرّس للمرأة حقوقها السياسية

أما النتخابات النيابية المبكرة الثانية التي عرفها تاريخ لبنان جرت في عهد الرئيس فؤاد شهاب بتاريخ 4 أيار 1960 بعد أن أصدر الرئيس شهاب المرسوم 4839 والذي قضى بدوره حل مجلس النواب التاسع نظرًا للأوضاع السياسية التي كانت سائدة آنذاك. وتم بعد ذلك إجراء إنتخابات نيابية على أساس قانون 1960 المعروف بقانون الستيّن الذي نجح الى حد ما بإضعاف الطائفية، فاستعاد لبنان استقراره وحياته الديمقراطية السليمة

إذا، الإنتخابات النيابية المبكرة ليست ردّة فعل أو مجرد كيديّة ونقمة على الطبقة السياسية، إنما هي معالجة لمشكلة قائمة، خاصّة عندما ترتبط المشكلة بقانون انتخابي حديث ذو أهداف وطنية كما في الحالتين المذكورتين. وما أشبه الليلة بالبارحة. ولكن ما حصل ما بين البارحة، واليوم، جعل من الإنتخابات النيابية المبكرة صعبة المنال على الصعيد القانوني وعلى الصعيد السياسي كذلك. فما هي هذه العقبات؟ وهل من مخارج دستوريّة يمكن الإستناد إليها لسلوك باب الإنتخابات النيابية المبكرة؟ للإجابة على هذه الأسئلة، يقتضي تقسيم بحثنا الى قسمين: نتناول في القسم الأول العقبات الدستورية التي تشكل عائقًا لحل المجلس النيابي وإجراء انتخابات جديدة، ونبحث في القسم الثاني عما إذا ثمة من مخارج دستورية وحلول يمكن إعتمادها


العقبات الدستورية التي تشكل عائقًا لحل المجلس النيابي

قبل تعديل الدستور سنة 1989 واستنادا الى المادّة 55 منه، كان يحق لرئيس الجمهوريّة أن يتخذ قرارا معلّلا بموافقة مجلس الوزراء، بحل مجلس النواب قبل إنتهاء العهد النيابي

وعلى الرّغم من أن المادّة المذكورة كانت تشترط موافقة مجلس الوزراء، إلا أن ذلك لم يكن يشكّل عائقا أمام رئيس الجمهورية، خاصة وأنه كان يعيّن جميع الوزراء ويسمّي من بينهم رئيسا كما وبإمكانه أن يقيلهم أيضا. وبالتالي، كان يمكن لرئيس الجمهورية أن يحل مجلس النواب كون السلطة الإجرائية كانت مناطة به

ولم تقف صلاحيات رئيس الجمهورية آنذاك عند هذا الحد وحسب، بل كان يحق له أيضا اقتراح القوانين وذلك استنادا للمادة 18 من الدستور والتي كانت تنص على أن “لرئيس الجمهورية ومجلس النواب حق اقتراح القوانين” مما يستتبع القول، أن الرئيس كان بإمكانه، استنادا الى صلاحياته الدستورية، أن يعزّز عهده برضى شعبي واسع وأن يحث المجلس النيابي على العمل التشريعي والرقابي تحت طائلة الحل

حتى جاء تعديل الطاّئف الذي سلب صلاحيات رئاسة الجمهورية وضعّف من دوره كثيرا، فلم تعد لديه القدرة على تقرير التوجهات العامة للسياسة. فلم يعد يجد أصلا أن نسأل مرشحا ما عن برنامجه الانتخابي، فهو لا يستطيع ان يعطي برنامجا لرئاسة الجمهورية، لأن هذا يتعارض مع طبيعة الدور الموكول اليه. وبالتالي لا يمكن أن يكون لديه برنامجًا يعد بتنفيذ بنوده

وبالعودة الى التعديل الدستوري الذي حصل في العام 1989. أصبح من الصّعب حل مجلس النواب، فقد جاءت تعديلات الطائف لتربطها بالحالات المنصوص عليها في كل من المادة 65 من الدستور، التي تعطي الحق لرئيس الجمهورية إذا امتنع مجلس النواب لغير أسباب قاهرة عن الاجتماع طوال عقد عادي أو طوال عقدين استثنائيين متواليين لا تقل مدة كل منهما عن الشهر أو في حال رد الموازنة برمتها بقصد شل يد الحكومة عن العمل. والمادة 77 منه، التي تناولت مسألة إعادة النّظر في الدستور، حيث سمحت لرئيس الجمهورية أن يطلب حل المجلس النيابي وإجراء انتخابات نيابية جديدة في حال أصرّ مجلس النواب على إعادة النّظر في الدستور وتعديله بالرغم من رفض الحكومة وردّها الإقتراح الى مجلس النواب لدراسته

وحتى لو تحقّقت إحدى الحالات المتقدّم ذكرها، فإن ذلك لا يفسح المجال لرئيس الجمهورية بحل مجلس النواب لأن قرار كهذا لم يعد بيده وحده بعد دستور الطائف. فقد اقتصر دوره على الطلب من مجلس الوزراء، حل مجلس النواب. فاذا قرر مجلس الوزراء تلبية طلب رئيس الجمهورية بحل المجلس، يُصدر عندئذ رئيس الجمهورية مرسوم الحل. وهذا يعني أن رئيس الجمهورية أصبح رهن موافقة مجلس الوزراء على طلب حل مجلس النواب. ولم يعد رئيس الجمهوريّة كما في السّابق، الآمر الناهي للحكومة ولم تعد السلطة الإجرائية تحت سلطته بحيث اقتصر دوره أيضا على تسمية رئيس الحكومة المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب. واستنادا إلى استشارات نيابية ملزمة، يطلعه رئيس مجلس النواب رسميا على نتائجها. ومن ثمّ، يقوم رئيس الحكومة المكلّف بتشكيل الحكومة مراعياً الكتل النيابية وبالتالي الأحزاب السياسية وحصصها في الحقائب الوزارية. وذلك يعني أن رئيس الجمهورية فقد صلاحية جوهرية كانت تجعل منه لاعبا أساسيّا وفعالا في الحياة السياسية، وهي تعيين الوزراء. فمع فقدانه هذه الصلاحية، لم يعد قادرا على حل المجلس النيابي 

إذا، أصبحنا في حلقة مفرغة. فكيف للحكومة- في الحالات المنصوص عليها في المادتين 65 و77 من الدستور- أن تحل المجلس النيابي وهي أصلا صورة مصغّرة عنه وتتأثّر لا بل تأتمر لتوجيهات وخيارات الكتل النيابية التي عيّنت الوزراء؟

أما العقبة الثّانية التي برزت أمام رئيس الجمهورية، تتمحور حول حقه في اقتراح القوانين. فقبل الطائف كان لرئيس الجمهورية الحق في اقتراح القوانين شأنه بذلك شأن مجلس النوّاب. ولكن بعد أن سُحبت منه هذه الصلاحية، لم يعد بإمكانه اقتراح قانون تقليص ولاية المجلس النيابي مثلًا، بل انتقلت هذه الصلاحية الى مجلس الوزراء. حيث أصبحت المادة تنص على أن لمجلس النواب ولمجلس الوزراء الحق في اقتراح القوانين، ولا يُنشر قانون ما لم يقره مجلس النواب. وبالتالي، عُدنا للمشكلة عينها، إذ يستحيل على الحكومة السّير بمشروع كهذا

المخارج الدستورية التي يمكن إعتمادها، ومدى فاعليّتها

اليوم، ثمة مخرجان دستوريون لإجراء انتخابات نيابية مبكرة

يتمثّل الأول بطلب رئيس الجمهورية، ووفقا للمادتين 65 و77 من الدستور، من مجلس الوزراء حلّ مجلس النواب قبل انتهاء عهد النيابة، وإذا قرر مجلس الوزراء، بناءً على ذلك، حلّ المجلس، يُصدر رئيس الجمهورية مرسوم الحلّ وتجري بعدها الانتخابات. وقد تناولنا سابقا هذا الطرح الذي أوصلنا الى إستحالة شبه مطلقة بسبب الواقع السياسي والطائفي القائم في العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية مما يستوجب إستبعاده والبحث في خيارات أخرى

  أما المخرج الثاني يتمثّل باختصار ولاية المجلس بناءً على اقتراح قانون من المجلس نفسه، أي الهروب الى الأمام ووضع المجلس النيابي تحت ضغط الشارع والقواعد الانتخابية. إلا أن هذا المخرج يستوجب أمرين: أولًا وعي شعبي واسع ومستمر يشكل ضغطًا على الكتل النيابية ويضعها في خطر خسارة قواعدها الانتخابية، وثانيًا التوصل إلى توافق سياسي بين أركان السلطة للشروع في حلّ المجلس النيابي الحالي والدعوة الى اجراء انتخابات نيابية مبكرة. ويستطيع رئيس الجمهورية في ظل دستور الطائف أن يلجأ إلى حل كهذا خاصّة إذا كان لديه كتل نيابية تدعمه في مجلس النواب فتقوم بإقتراح كهذا حتى ولو يبقى الأمر صعبا

وأمام هذا الواقع يمكن القول إن الإنتخابات النيابية المبكرة لم تعد حلا سياسيا شاملا يلجأ اليه رئيس الجمهوريّة لتحصين عهده الرئاسي وضمان نجاحه، وأنه لم يعد حتى ورقة ضغط يلجأ إليها الرئيس كلما شعر أن المجلس النيابي يعطل العمل التشريعي والرقابي ويفسح المجال للإنقسامات الطائفية والمصالح الفئويّة بالسيطرة على روحية القوانين وبالتالي يفسح المجال للنقمة والغضب الشعبيين وربما حل مجلس النواب في ظل دستور الطائف لم يعد حلاً. لأن أي إنتخابات نيابية مبكرة لا تقترن بقانون إنتخابي حديث يلغي الطائفية، ويكرس حلم دولة القانون المدنية، ويشكل معه مجلساً للشيوخ ينظر في الإنقسامات الوطنية والطائفية، ويفسح المجال أمام المجلس النيابي للانشغال في عمله التشريعي والرقابي، فسوف تكون هذه الانتخابات عاجزة عن إحداث تغيير حقيقي وفعلي للحياة السياسية اللبنانية. والوصول الى قانون انتخابي كهذا لا يقل صعوبة عن الوصول الى الانتخابات النيابية المبكرة، إذ إن لمجلس النواب، وبالتالي للكتل النيابية، كلمة الفصل بإقرار قانون كهذا. فإذا سعت أن تقره، أقرّته. وأي طريق غير عن هذه الطريق، سوف تكون صعبة وشاقة

وأخيرا

نختم برأينا الشخصي بأن لبنان بحاجة لأكثر من انتخابات نيابية مبكرة، فمشاكل الأمس التي كانت الإنتخابات وبث الشرعية عند الإستحقاقات المهمة بمثابة حل لها، لم تعد تجدِ في يومنا هذا. ما نحتاجه اليوم هو مؤتمر تأسيسي جامع لكل الأحزاب والقوى السياسية بما فيها المجتمع المدني. مؤتمر شامل للبحث في كافة الإنقسامات والهواجس كما البحث في مختلف القوانين لوضع خطط سياسية، إقتصادية واجتماعية شاملة تعزز الوجه الاقتصادي اللبناني أولًا، وتخلق البيئة والبنية المحفزتين للإستثمارات ثأنيًا، وتجعل الضرائب في خدمة البيئة، وتعزز الخدمات الإجتماعيّة وتقوم بتحديث القوانين وتمكن الدولة بمختلف مؤسّساتها وتعزز الشفافية والى ما هنالك من الأفكار والطروحات الوطنية التي سيكون الشعب اللبناني في سباق لطرحها. فالحل هو بأن يقرر الشعب مصيره فإذا بنيت الإنتخابات النيابية والقوانين الإنتخابية على هذا الأساس سنتمكن من بناء دولة لبنان العصريّة والرائدة


Salman Matar
Salman Matar

Fiat justitia, pereat mundus.

Interested in international business law, commercial law, tax law, and administrative law.

Leave a Comment