مطابقة الواقع للقانون في رحاب الجنسية اللبنانية


سنطل من خلال هذا المقال على أحكام الجنسية اللبنانية، سيما طرق اكتسابها وحفظها انطلاقاً من القانون وواقع الحال في المجتمع اللبناني ونسيجه المتنوع، وصولاً لتكوين ركن الشعب في الدولة اللبنانية. فقد نصت المادة السادسة من الدستور اللبناني على ما حرفيته: ” إن الجنسية اللبنانية وطريقة اكتسابها وحفظها وفقدانها تحدد بمقتضى القانون “. إن موضوع الجنسية هو فرع من فروع القانون الدولي الخاص، رغم كون موضوع الجنسية هو مؤسسة مستقلة ككيان قانوني. فمن المسلم به لدى علماء القانون والإجتماع أن تشريع كل أمة هو من خصائصها وله أوثق الإرتباط بأخلاقها وتقاليدها وعاداتها وهو مظهر من مظاهرها ومرآة لعدة عوامل فيها. في لبنان خصوصاً والدول العربية عموماً حيث للغة، الدين، العادات، الثقافات، الحضارة المشتركة، وتقارب الحدود، عظيم الأثر في مفهوم الأمة التي تجزأت إلى دول وأقاليم لكن بتاريخها وجذورها قومية عربية وأصالة مشتركة. إن الجنسية وفق التعريف السائد: ” هي الأداة التي يتم على أساسها التوزيع القانوني للأفراد على سائر الدول، وبعبارة أخرى الوسيلة التي بمقتضاها يتحدد ركن الشعب في الدولة “. فكل دولة وفق ما هو معلوم تتألف من إقليم ( أرض )، ومواطن ( شعب )، وسيادة ( شخصية ) إذاً إنه ركن الشعب في الدولة. لذا كانت الجنسية نسيج من علاقة قانونية-سياسية بين الفرد والدولة بموجبها يتحقق انتماؤه إليها ورعايتها له

للإحاطة بموضوع الجنسية اللبنانية سنقفز من أحكامها القانونية إلى قراءة الواقع من خلال مبحثين اثنين

الأول سنتناول فيه أحكام اكتساب الجنسية اللبنانية في القانون، الذي سنفنّد من خلاله أحكام اكتساب الجنسية الأصلية ثم أحكام اكتساب الجنسية الطارئة

الثاني سيخصص لقراءة تطبيق تلك الأحكام في الواقع، الذي سنعلّق فيه على بعض الفقرات والنصوص المتعارضة منطقياً ثم البعد الإنساني ودور القاضي سيما في عالم اليوم

المبحث الأول: أحكام اكتساب الجنسية اللبنانية في القانون

إن الكلام عن تأسيس الجنسية اللبنانية في الدول العربية وتعميرها يرتبط بدراسة أحكام معاهدة لوزان تاريخ 24 تموز 1923، فلأحكام هذه المعاهدة في ما يتعلّق بالجنسية أهمية خاصة في الدول العربية ( ومنها لبنان ) التي انفصلت عن الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ذلك أن قوانين الجنسية في هذه الدول قد تأثرت بها سواء لأنها كانت ملتزمة باتباع أحكامها مثل لبنان، سوريا، الأردن، العراق، السعودية، أم لأنها راعت ما ورد فيها من أحكام من تلقاء نفسها مثل مصر. لم تظهر الجنسية اللبنانية إلى الوجود إلا بفعل معاهدة لوزان عام 1923 وصدور القرار رقم 2825 المنفذ لها. كما تظهر أهمية هذه المعاهدة في أنها نظمت في المواد من 30 إلى 36 منها جنسية الدول التي قامت في الأقاليم التي سلخت عن الدولة العثمانية، مقررةً مبدأ مؤداه أن يتمتع الرعايا العثمانيون في الأقاليم التي سلخت عن تركيا بجنسية الدول التي انتقل إليها الإقليم بقوة القانون وفقاً للأوضاع والشروط التي يتطلبها التشريع المحلي لكل دولة. أصدر المندوب الفرنسي إنفاذاً لأحكام اتفاقية لوزان في 30 آب 1924 القرار رقم 2825 الذي نشأت بموجبه الجنسية اللبنانية وطُبّق ذات القرار على سوريا فنشأت الجنسية السورية أيضاً

نصت المادة الأولى منه على أن : ” كل من كان من التابعية التركية في أراضي لبنان الكبير في تاريخ 30 آب 1924 أثبت حكماً في التابعية اللبنانية وعُدّ من الآن فصاعداً فاقداً للتابعية التركية “. كما تثبت هذه الجنسية وفقاً للمادة السادسة من القرار 2825 لزوجة الشخص المعني ولأولاده القاصرين بقوة القانون. تجدر الإشارة إلى أن المشرع اللبناني أصدر في 31 كانون أول 1946 قانوناً عدل بمقتضاه بعض أحكام الجنسية وقدم حكماً جديداً نصت عليه المادة الثانية مفاده :” أن كل شخص من أصل لبناني مقيم خارج لبنان ولم يختر الجنسية اللبنانية يمكنه إذا عاد نهائياً إلى لبنان أن يطلب اعتباره لبنانياً، فيصدر بذلك مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء”. وإذا كانت ظروف تأسيس الجنسية اللبنانية قد تشابهت مع تأسيس جنسيات الدول العربية خاصة سوريا إلا أن تعمير الجنسية اللبنانية لا زال إلى اليوم محكوماً بالقرار رقم 15\س تاريخ 19 كانون الثاني 1925 مع تعديلاته والنصوص المكملة له

الفرع الأول: أحكام اكتساب الجنسية اللبنانية الأصلية

عندما نتحدث عن تأسيس الجنسية يعني نتكلم عن الجنسية الأصلية وهي التي يكتسبها أو يرثها الفرد، حيث إنّ الأسس التي تقوم عليها الجنسية الأصلية لا تخرج عن أحد أساسين مع اتجاه متزايد للجمع أو للمزج بينهما أحياناً

حق الدم أو البنوة

حق الإقليم أو الميلاد على أرض الدولة

ترعى الجنسية اللبنانية الأصلية المواد الأولى والثانية والعاشرة من القرار رقم 15 تاريخ 19 كانون الثاني 1925، فيتبين أن القانون اللبناني يعتمد كلتا الرابطتين، حيث نصت المادة الأولى من القرار 15 لعام 1925 على ما يلي: ” يعد لبنانياً

كل شخص مولود من أب لبنانيأ‌ يعني حق الدم

كل شخص مولود في أراضي لبنان الكبير ولم يثبت أنه اكتسب بالبنوة عند الولادة تابعية أجنبية يعني حق الإقليم

كل شخص يولد في أراضي لبنان الكبير من والدين مجهولين أو من والدين مجهولي التابعية يعني حق الإقليم

يتم الحصول على الجنسية اللبنانية الأصلية بحكم رباط الدم، أي أن المولود يستمد فور ولادته جنسية والديه أو أحد والديه وهو الأب بصرف النظر عن مكان ولادته. فهو حق للفرد بالحصول على الجنسية الأصلية استناداً لرابطة البنوة الشرعية وهو الغالب أو لرابطة البنوة الطبيعية وهو الإستثناء. فما هي جهة النسب في حق الدم في لبنان ؟ إن الغالب في تشريعات الجنسية العربية ومنها لبنان اعتمادها بحق الدم من جهة الأب، حيث ينبغي أن يكون الولد شرعياً وهذا ما بينته الفقرة الأولى من المادة الأولى من القرار رقم 15، فالعبرة هي لجنسية الأب بتاريخ الولادة لا لمكان الولادة، فكما ينقل الأب اللبناني الحياة لإبنه ينقل إليه الجنسية اللبنانية

مع ذلك هناك استثناء عليه حيث توجد حالات ضيقة قليلة يعتد فيها بحق الدم من جهة الأم، عندما يكون الوالد مجهولاً ( كالولد الطبيعي) أو عندما يكون الأب عديم الجنسية. نصت المادة الثانية من القرار رقم 15 على : ” إن الولد غير الشرعي ( الطبيعي) الذي تثبت بنوته وهو قاصر، يتخذ التابعية اللبنانية إذا كان أحد والديه الذي تثبت البنوة بالنظر إليه لبنانياً “. هل لأساس حق الأرض تأثير على اكتساب الجنسية الأصلية في لبنان ؟

يقصد بحق الإقليم أو حق الأرض أن المولود يستمد جنسيته أو يحصل عليها من الدولة التي ولد فيها أو على إقليمها بقطع الصلة مع جنسية والديه أو والده وسواء كان وطنياً أم أجنبياً. وكي لا يعتبر هذا الأساس وكأنه يقوم فقط على علاقة ظرفية أو عرضية أي مجرد حصول واقعة الولادة، فإن كثيراً من التشريعات ( خاصة العربية ) التي تأخذ بهذا الأساس لا تكتفي بواقعة الميلاد على اقليمها وحدها، بل تشترط تعزيزها بقرائن أخرى دالة على وثوق ارتباط الفرد بها وولائه الحقيقي لها، وأهم هذه القرائن

اشتراط ولادة الأب ايضاً على اقليمها يسمى الميلاد المضاعف

اشتراط توطن الوالدين في الدولة عند ولادة الطفل يسمى الميلاد المقترن بالإقامة

في لبنان لم يذكر القانون اللبناني هذه الشروط بتاتاً، بل نص في الفقرتين الثانية والثالثة من المادة الأولى من القرار رقم 15 أن كل شخص مولود في أراضي لبنان الكبير ولم يثبت أنه اكتسب بالبنوة عند الولادة تابعية أجنبية فهو لبناني كما يعتبر لبناني كل شخص يولد في أراضي لبنان الكبير من والدين مجهولين أو من والدين مجهولي التابعية. وبذلك يكون المشرّع اللبناني أعطى الجنسية اللبنانية الأصلية وفق أساس حق الأرض لكل طفل يولد في لبنان دون أي يكتسب أي جنسية أخرى كمكتومي القيد، وكذا كل طفل غير شرعي أو مكتومي القيد

الفرع الثاني: في اكتساب الجنسية اللبنانية الطارئة

تظهر أهمية الجنسية الطترئة في كونها الوسيلة الأساسية لتحويل الأجانب إلى وطنيين في الدولة الحديثة، وهي تشكل خروجاً عن المسلمات التي كانت تحكم الجنسية الأصلية باعتبارها وسيلة الصفاء في ركن الشعب لأي دولة. من خلالها تظهر خيارات الفرد وإرادته في انتقاء جنسيته واختيار البلد الذي يريد العيش فيه مثل اسمه وموطنه وسكنه وزوجته ونمط حياته.تتعدد وتتلون مواقف التشريعات العربية في تحديدها لأسباب الجنسية الطارئة أو اللاحقة للميلاد. إن الفقه متفق على أسباب تعتبر الأكثر توافقاً وانسجاماً مع مضامين معظم قوانين الجنسية وأبوابها وهي: التجنس، الزواج المختلط، الإسترداد

فما هي أحكام التجنس في لبنان ؟

إن التجنس هو أحد طرق اكتساب الجنسية الطارئة بعد الميلاد، فقد نصت المادة 3 فقرتها الأولى من القرار رقم 15\س تاريخ 19 كانون الثاني 1925 المكملة بالقرار 160 تاريخ 16 تموز 1934 على التجنيس وصوره كالتالي

يجوز أن يتخذ التابعية اللبنانية بموجب قرار من رئيس الدولة بعد التحقيق وبناء على طلب يقدمه

الأجنبي الذي يثبت إقامته سحابة خمس سنوات غير منقطعة في لبنان

الأجنبي الذي يقترت بلبنانية ويثبت أنه أقام مدة سنة في لبنان إقامة غير منقطعة منذ اقترانه

الأجنبي الذي يؤدي للبنان خدمات ذات شأن ويجب أن يكون قبوله بموجب قرار مفصل الأسباب، يمكن أن تعتبر خدمات مهمة الخدمات الفعلية في الجيوش الخاصة إذا بلغت أو تجاوزت مدتها سنتين “. إن هذا النص قد جمع كافة صور التجنس العادي والخاص والإستثنائي

من الناحية النظرية يتفق الفقهاء على أن الزواج المختلط كمدخل لإكتساب الجنسية الطارئة يأخذ صورتين

الأجنبي الذي يتزوج وطنية

الأجنبية التي تتزوج من وطني وهي الصورة التي تركز عليها التشريعات


فالرجل الأجنبي الذي يتزوج من وطنية يمكنه في ظل التشريعات أن يدخل في جنسية زوجته بشروط مخففة عما هي عليه في حالة التجنس العادي، وهذا الموقف المخالف قررته المادة الثالثة فقرتها الثانية من القرار رقم 15 لعام 1925 من قانون الجنسية اللبنانية التي ” تجيز اتخاذ التابعية اللبنانية للأجنبي الذي يقترن بلبنانية ويثبت أنه أقام سنة في لبنان إقامة غير منقطعة منذ اقترانه ” والفقه في غالبه يدخل هذه الحالة ضمن صور التجنيس الخاص في القانون اللبناني

كما طبقت معظم التشريعات مبدأ وحدة الجنسية الأسرية على اطلاقه حيث أتى نص المادة الخامسة من القرار رقم 15 لعام 1925 واضحاً على أن : ” المرآة الأجنبية التي تقترن بلبناني تصبح لبنانية ” لكن هذا النص تعدل لعدة اعتبارات بالمادة الأولى من قانون 11 كانون الثاني 1960 مضيفاً شرطين حيث قرر أن : ” المرأة الأجنبية التي تقترن بلبناني تصبح لبنانية بعد مرور سنة على تاريخ تسجيل الزواج في قلم النفوس بناء على طلبها “. وبالتالي أضاف المشرع اللبناني مدة السنة مع طلب تقدمه احتراماً لرأيها وإرادتها وذلك بقوة القانون ودون حاجة لإستصدار أي قرار أو مرسوم جمهوري

نخلص إلى القول من خلال ما تقدم أن الجنسية اللبنانية رابطة قانونية_ سياسية تمنح من قبل الدولة. كما تشكل حقاً يتمتع به المواطن الذي ينتمي لهذه الدولة. وهي تقوم على اعتبارات خاصة في الدول العربية مرتبطة بفكرة القومية والأمة
إن أحكام اكتساب الجنسية اللبنانية تعود بجذورها إلى معاهدة لوزان عند انفصال البلاد عن السل العثمانية ومنها لبنان وسوريا. كما شكلت محطة الإنتداب الفرنسي من خلال قرار المندوب الفرنسي بصمة في نصوص تلك الأحكام
وقد نصت مواد ذلك القرار على اعتبار كل مولود من أب لبناني أنه لبناني الأصل، كذا بعض حالات منح الجنسية الأصلية. وعليه فقد جعل القانون اللبناني رابطة الدم من جهة الأب أساس اكتساب الجنسية اللبنانية الأصلية


Hamza Diab
Hamza Diab

يتابع أطروحة الدكتوراه في جامعة بيروت العربية
ضو في جمعية الإرشاد والإصلاح

Leave a Comment