الاستراتيجية الدفاعية: من اجل نقاش وطني وعلمي


تتردد السلطة في لبنان في فتح ورشة “الاستراتيجية الدفاعية” بالرغم من الجدل السياسي الواسع حول هذا المفهوم او ربما بسبب تسييسه الى اقصى الحدود مما يجعل منه مادة لتغذية الانقسامات الداخلية. فللبنان استراتيجية دفاعية عسكرية يحددها الدستور وتسهر على تنفيذها السلطات الامنية والعسكرية تحت رقابة ومسؤولية السلطات السياسية وضمن توجيهاتها. لكنها استراتيجية منقوصة : فهي امنية-عسكرية بالمعنى المحدود، كما وانها ليست وطنية بفعل ارتكاز جزئ اساسي منها على مساهمات لا دستورية. من اجل تطويرها يجب جعلها شاملة ووطنية، اي ان لا تكون محصورة بالشق العسكري فقط بل ان تتعداه لتتأقلم باستمرار مع تغير مصادر وطبيعة الاخطار، وان تكونايضا تحت امرة السلطات الدستورية فقط لا غير وان لا تتخطاها لتخسر ميثاقيتها اي لبنانيتها

ان اهمية بلورة واعتماد استراتيجية دفاعية وطنية شاملة يكمن في انها تساهم في تحصين الدولة ومؤسساتها وفي حماية الوطن والمواطنين و في ارساخ مفهوم المواطنة، كل ذلك عبر تأثيرها في بناء دولة عصرية قادرة على مجابهة التّحديات وتخطي العقبات

سوف نحاول هنا توضيح هذا المفهوم للقرّاء لاظهار اهميته علّه يسمح لنا هذا التوضيح السير نحو الارتقاء الى نقاش علمي ومنتج

الاسس والمبادئ

بداية ننطلق من تعريف المصطلح المقسوم الى قسمين وهما استراتيجيا ودفاع. من ناحية الاستراتيجية فتعني بحسب “ليدل هارت” “درس الخيارات المتاحة للدولة وتحليلها وتقييمها وكيفية استخدام الإمكانات والموارد المختلفة لتحقيق الأهداف التي تحدّدها السلطة السياسية”. بتعريف مبسّط، هي فن التّخطيط وما يتضمّنه ذلك من معرفة نقاط القوّة والضّعف للدّولة المعنيّة من اجل وضع خطّة ومسار يؤديان الى تحقيق اهداف هذه الدّولة العليا. اما كلمة دفاع فهي واضحة المعنى ومضمونها هو الدّفاع عن مرتكزات ومصالح الدّولة والذّي يأتي ضمن محورين هما الدّفاع الخارجي والامن الدّاخلي. من هنا نفهم ان الاستراتيجيا الدّفاعية هي الخطّة الموضوعة من اجل التّصرف المدروس فيما يخص التّصدي للمخاطر التي تهدد الدّولة

من ناحية المخاطر يجب على واضع هذه الاستراتجية معرفة مبدأ اساسي وجوهري وهو ان المخاطر شاملة ومستدامة ويعني ذلك انه خلافا للرّأي السّائد بأن الاستراتجية الدّفاعية تتعلق بالامور العسكريّة فقط انما تشمل جميع المجالات التي قد تؤثر على مكانة الدّولة وقدراتها. من هذه المجالات: الامن الغذائي- الامن الاقتصادي- العلاقات الدّبلوماسية والدولية- الامن الاجتماعي- الامن الصّحي- السياسة الامنية (وهنا يدخل دور العلم العسكري). من هنا نؤكد ان اي استراتيجية موضوعة لا تشمل جميع المجالات هي ناقصة وغير فعّالة كما وان من المهم جدّاً لا بل ضروري ان تكون الاستراتيجية متجددة باستمرار. ذلك لعدة اسباب منها تطور العلم العسكري الدائم وما يأتيه الامر من خبرات ومعلومات جديدة تفرض تغيير الخطط الموضوعة. ايضا الاكتشافات الطّبية الجديدة وما يتبعه من تغيير خطط الاستجابة الطّبية في حال ظهور اوبئة، كما نرى اليوم بعد فيروس كورونا جميع الدّول تعيد النظر في طرق استجابتها وفهمها لحالات الاوبئة التي اصبحت اليوم من المخاطر الاساسية على الامن القومي للدّول. اضافة الى ذلك تراجع التّجارة العالمية نتيجة هذا الوباء وبالتالي بروز مخاطر على الامن الاقتصادي للدّول التي سوف تظهر اكثر فأكثر مستقبلا في حال استمرّ الوباء لوقت طويل ما سيخلق ايضا مشاكل اجتماعية واضطرابات. من هنا نرى التّرابط بين جميع المخاطر وصعوبة فصلها عن بعضها مما يوضح اهمية شمولية الاستراتيجية وبعد النظر فيها

يجب ايضا على الاستراتيجيّة الموضوعة ان تكون وطنيّة بمعنى ان ترضي الاغلبية من المواطنين، هذا من الناحية السياسية اما من الناحية الاخرى فيعني الامر ان تغطي جميع الشؤون الوطنية

بعد سرد هذه المعطيات نفهم ان الاستراتيجية الدّفاعية هي الخطّة الاساسيّة الموضوع فيها المسارات الكبيرة التي تمكّن الدّول من فهم المخاطر المحدّقة بها وتوقع المخاطر الجديدة والاستعداد لمخاطر لا يمكن التنبوء بها ومن ثم مكافحة هذه المخاطر بخطوات وسياسات مدروسة تعتمد على تكامل وتعاون بين مؤسسات الدّولة وعلى الحوكمة الجيّدة لموارد هذه الاخيرة ضمن خطة متكاملة هي هذه الاستراتيجية

الوضع في لبنان

 لبنان اليوم يمتلك استراتيجيّة دفاعيّة ليست وطنيّة بالمعنى السياسي بمجرّد انها لا ترضي فريقاً كبيراً من اللبنانيين. وهي ليست كاملة ايضاً اذ انّها تقتصر على معالجة تهديدات عسكريّة معيّنة دون اخرى وهي لا تعالج ابداً شؤوناً غير الشأن العسكري بمفهومه الضيّق. هذا الامر يجعل من لبنان بلد على شفير الانهيار في جميع الاوقات بسبب عدم استعداده للمخاطر خارج النطاق العسكري. كما رأينا اليوم ضعف الاستجابة عندما برز فيروس كورونا فبدل اغلاق جميع المعابر واستباق الامور وفق خطّة تصرّف مسبقة تلهّى السّاسة اللبنانيون في جدالات عقيمة وتحضير خطط وخطوات

بحسب المادة 65 من الدستور اللبناني فان مجلس الوزراء هو المسؤول عن وضع الاستراتيجية الدّفاعية حيث ان “السلطة الاجرائية تناط بمجلس الوزراء ” ومن صلاحياته “وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات”. اما من ناحية التّنفيذ فهي تقع على عاتق رئيس مجلس الوزراء بالدّرجة الاولى حيث نصّت المادة 64 من الدّستور انه “مسؤولا عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء” وبالدرجة الثانية على مجلس الوزراء وايضا المجلس الاعلى للدّفاع حيث تم تحديد مهام هذا المجلس بموجب المادة 8 من المرسوم الاشتراعي تاريخ 16/9/1983، والتي تم تعديلها بموجب المرسوم رقم 101 تاريخ 26/9/1984 ونصت على ما يلي: 1-“يقرر المجلس الاعلى للدفاع الاجراءات اللازمة لتنفيذ السياسة الدفاعية كما حددها مجلس الوزراء وتبقى مقررات المجلس الاعلى للدفاع سرية ويولي المجلس اهمية خاصة للتعبئة الدفاعية” و2- “يوزع المجلس الاعلى للدفاع المهام الدفاعية على الوزارات والاجهزة المعنية ويعطي التوجيهات والتعليمات اللازمة بشأنها ويتابع تنفيذها ويقر خطة العديد والتجهيز الموضوعة لهذه المهام.” واخيرا رغم ان هذا المرسوم حدد معنى الدفاع الوطني في مادته الاولى بأنه “يهدف الى تعزيز قدرات الدولة وانماء طاقاتها لمقاومة أي اعتداء على ارض الوطن واي عدوان يوجه ضده والى ضمان سيادة الدولة وسلامة المواطنين”. ورغم انه سمح باستخدام القوى المسلحة لأمور تتعدى القتال حيث نصت المادة الاولى ايضا بانه “يمكن استخدام القوى المسلحة في الحقول الانمائية والاجتماعية شرط الا يعيق ذلك مهامها الاساسية”. الا ان لبنان يبقى بعيدا جدا عن امتلاك استراتيجية دفاعية شاملة المجالات محددة الاهداف ومتطورة في المفهوم والمضمون تسمح له بمواجهة المخاطر على انواعها وحماية سيادته وشعبه. فهل يأتي يوم تخرج فيه استراتيجيّة صريحة وفعّالة من كبش المماحنات السّياسية اللبنانية؟ 


Karam Al Ahmar
Karam Al Ahmar

Head of the Lebanon Law Review’s Political Division.

Leave a Comment